Sonder

 لم أنم سوى ثلاث ساعات واضطررت للاستيقاظ ولقيادة السيارة، اشتريت مخبوزات وكوب شاي وحاولت إقناع عقلي أنه لا بأس، ياما نمنا. ولكن مواجهة العالم بهذا العدد القليل من ساعات النوم أحيانًا تشعر به ينقل وعيك إلى مستوى مختلف من الوجود، كأنك قدر صرت مخلوقًا أعلى قليلًا، ذو مقدرة على اختراق هذا البعد من الوجود. لا أدري إن كان ما أقوله مفهومًا تمامًا ولكني أعي أنه تجربة متكررة مع الجميع على الأغلب. 


الناس في الشوارع مكتئبون، يحفهم غمامات مختلفة الحجم والكثافة واللون، وحين تنظر إليهم مطولًا يداهمك شعور مباغت بالمعرفة.. معرفة أن كل واحد من هؤلاء السادة المحترمين يملك حياته الخاصة وحكاياته شديدة التعقيد والتداخل. مؤخرًا عرفت أن هذا الشعور يسمى sonder، الاستيعاب المفاجئ لفكرة امتلاك الناس لحيواتهم الخاصة. ربما عقولنا مصممة بشكل أو بآخر لاعتبار العابرين والمارة والأشخاص الذين نتعامل معهم تعاملًا طفيفًا على أنهم محض ما يسمونه في الفيديو جيمز NPC، الشخصيات غير اللاعبة، وهو ما يرمز للشخصيات المصممة فقط لتخدم اللاعب خلال قصة اللعبة. لذلك فالمعتاد داخل عقلك هو أن صاحب السوبرماركت الذي تشتري منه بسكويت الشوفان والقهوة الصناعية الرديئة، هو محض صاحب مطعم، ليس أي شيء غير ذلك، تلك حقيقته وتلك كل كينونته، بل تفكر أنك لو خضت معه نقاشًا في مرة ربما تكتشف أنه لا يعرف سوى معلومات محددة ولا يمتلك سوى إجابات محددة، بعد أن يقولها، سوف لا يستطيع الرد على أي شيء. 


أما شعور "الـ سوندر" المفاجئ، فهو يضربك باستيعاب أن هذا الرجل يمتلك حياة كاملة، وماضيًا طويلًا. كان طفلًا جميلًا وكبر ليصيبه بعض الصلع الوراثي وتضربه الظروف الاقتصادية بشكل أو بآخر. في الثانوية كان يحب فتاةً اسمها س وتستطيع أن تلقي الشعر بطلاقة، وفي سن العشرين مات والده دون إنذار. في سن الثلاثين يشتري أول سيارة له، كرولا ٢٠٠٤، فضية اللون وتكتنفه سعادة مدوية حين أخذ جولة فيها مع زوجته للمرة الأولى. وفي سن الأربعين الآن، يمتلك طفلة يحبها جدًا وتحمل عينين ملونتين ربما من أمها، ومنذ شهرين يفكر جديًا في فتح فرع آخر لهذا السوبرماركت في المنطقة الغربية من المدينة. في أوقات فراغه يحب قراءة الروايات ويتابع الأخبار دون آراء محددة فيها، وحين يرى قططًا في الشارع في يوم مطير فإنه يسمح لها بدخول المحل. وخلف كل هذا فهنالك طبقات مختلفة ومتعددة من التعقيد الذي يحمل في طياته عالمًا كاملًا وحياةً كاملةً مليئة بالتفاصيل. 


مشكلة هذا الشعور-سوندر- أنه يضربك بشكل مفاجئ من وقت لآخر، وأنت بين هذه المرات تنسى، ولذلك فسرعان ما سأنسى، وبعد عدة أيام، وأثناء تجوالي في الشوارع المزدحمة، سوف أرى جموع الغرباء تتحرك جيئةً وذهابًا، وحين أطيل النظر فيهم، سوف أفكر مرة أخرى، بأنه وللمفارقة، فهؤلاء الأشخاص كلهم ليسوا محض "شخصيات غير لاعبة"، كلا، كل منهم يمتلك حياته الكاملة وقصته المفصلة.. سوندر. 


Comments

Popular Posts