طائر متفرد.


كان هنالك طائر يحلق في السماء اليوم، أمامه بمسافة ليست بالكبيرة -ربما هي كبيرة في الحقيقة، ولكنه قصور الرؤية البعيدة- يحلق سرب من طيور مماثلة. لا يلتحق بها، ولكنه لا ينفصل عنها تماماً. ربما لأنه، لو لحق بها، لتماهى حتى يفقد هويته كليًا. ولو ابتعد، لوصل إلى نفس النتيجة. ولذلك تراءى له أن الحل الوحيد، هو الابتعاد بقدر يسمح له بالتفرد الشخصي، وفي الوقت نفسه، يقيه شر الشعور بعدم الانتماء.

كنت أنا في الشرفة أراقب، تلحف وجهي أشعة شمس شهر تموز، وأشعر -بفضلها أنني حي، وأنني حقيقي. أحضرت ورقةً بيضاء من غرفتي، ثم رسمت سريًا من الطيور، وطائر واحد يتخلف عنهم. رسمت بأقصى درجة ممكنة من التجريد، إذ أن، كل ما أردته، هو فقط تصوير المشهد، كي لا يتلاشى مني للأبد.

"ملعقةً من الشاي، وملعقتين من السكر." هكذا أخبرتُ أبي وهو يسألني عن التلقيمة المناسبة للشاي، لعد استخدامي لكوب جديد، أكبر قليلًا من الحجم المعتاد. بعد قليل يحضره أبي، فأشكره، وأخبره أنه شاي رائع كالعادة.

أضع بعض الموسيقى على التطبيق المدفوع، ثم أعواد ثانيةً للطائر المتخلف عن السرب. وأود أن أتساءل: كم واحد منا، تتعبه قيود الجماعة، ولكنه لا يقدر على الانفصال منها؟ أعني، فكرة الانفصال مبهرة، ثائرة، حماسية، وشجاعة. ولكن كم منا يقدر لها؟

في كثير من الأوقات، ما يثقلك، ليس نفسك، بقدر ما هي أفكار القطيع الذي أنت منه. ما يشدك للأرض بقوة، ويمنع جناحيك عن الانطلاق والتحليق، هو القيود السخيفة، المتسللة لعقلك، من جراء العيش بمفاهيم واعتقادات، ليست لك.

أحدق للطائر المنشق عن السرب على الورقة البيضاء وأفكر: ليتني مثله.

في يوم من الأيام، تشرق فيه الشمس، وتهب فيه النسائك المعتدلة، يمكن أن تجد في نفسك المقدرة. ليس للانشقاق بشكل كامل، ولكن أقله، للبدء في طريق الابتعاد عن الهراء المجتمعي. والعيش وفقًا للفضيلة، والحقيقة، والمبادئ غير المشوهة بآراء الغير. لقد فعلها طائر عشوائي في السماء، أقصد بحق الله ألا أقدر على فعلها؟

أعود للنقطة التي، عندها تدرك أن الانفصال بشكل كامل، قد يورثك هشاشة غير متوقعة. فالإنسان منا في النهاية، يحتاج مكانًا ينتمي إليه. ولعل ذلك ما جعل الطائر، ينشق بشكل جزئي عن سربه. فليست كل الأحوال. تقتضي الابتعاد تماماً، وترك الجمل بما حمل. هذا طبيعي. لا انشقاق كامل، حدث بين يوم وليلة. اجعل الوقت حليفًا لك.

على أنه في نقطة محددة من دربك الثوري، ربما ترى أنه، آن أوان الترك التام، والشروع في خلق تيار جديد، تصير أنت -أنت وحدك- المحدد لاتجاه سريانه. قد يستغرق الأمر سنينًا، وقد تسقط كثيرًا، وقد تستوحش. الإبحار وحدك صعب، ولكنك ستصل. ثق بذلك.

أفتح ورقة بيضاء جديدة، وأرسم سربًا من الطيور، بأقصى طريقة ممكنة من التجريد. ثم أرسم شجرة طويلة تمتد للسماء، وعليها يقف الطائر المتفرد. أختار أن يحط عليها ويتوقف عن تتبع السرب حتى ولو جزئيًا، وأشعر حينها، بأن القصة انتهت، لتبدأ قصة جديدة.

Comments

Post a Comment

Popular Posts