ما الدي يصنعه العقل بنا؟
اليوم أمطرت السماء قرابة العشر ساعات تقريباً. ما زالت تمطر حتى الآن بالمناسبة، بغزارة وبحدة، وبمثابرة كأنما أخذت على عاتقها مهمة إغراق الأرض ومن عليها، فلن تتوقف حتى تنجز مهمتها.
الكهرباء منقطعة طيلة اليوم، بسبب الأمطار مما هو بديهي. أكتب ما أكتب الآن، محاطًا بالظلام الدامس، وشاعرًا ببعض التعب في معدتي، وبعض التشتت الذي لا يمكن وصفه بالشديد، ولكنه كذلك أكثر من أن يوصف بالعادي. ينبغي ألا أتناول الطعام بشكل عشوائي. أخبر نفسي بذلك على الدوام. حيث أنه، بسبب التوتر الناتج عن التقلبات التي تحدث في عقلي بلا سياق محدد في الفترة الماضية، فقدت قدرتي على التحكم بالطعام، وصرتُ آكل بشكل عبثي، لا أريد وصفه بأنه اضطراب تناول الطعام الناتج القلق، ولكنه قريب من ذلك في الحقيقة. لذلك فمعدتي مضطربةٌ الآن، وأنا كذلك.
في الحقيقة لا أعتقد أن هذا النص سيتضمن شيئًا ذا جدوى، لا حكمة مستترة، لا وصف شاعري، ولا قصة لطيفة. لا شيء سوى سرد للأشياء التي ستنساب لعقلي بشكل تلقائي، حتى ولو كانت مجرد قول أنني تناولت بسكويتتين بالشوكولاتة منذ قليل وأن معدتي مستاءة من هذا التصرف العشوائي.
منذ سنتين كنت مفتونًا برسالة انتحار فان جوخض -أو الرسالة المنسوبة إليه، لا يهم-، تحديداً بالمقطع الذي يقول فيه:
إلى أين تمضي الحياة بي؟
ما الذي يصنعه العقل بنا؟
إنه يفقد الأشياء بهجتها ويقودنا نحو الكآبة.
أجد نفسي أسأل نفس السؤال مؤخرًا. إلى أين تمضي الحياة بي؟ إلى أين وصلت تحديداً؟ ولا أجد إجابة محددة. إذ إنه في الحقيقة، ينتابني الشعور بأنني، قد ركضت كثيرًا ثم عدتُ لنقطة البداية. وأعدت الركض مرات وعدت بعدها أيضًا. وها أنا في نفس النقطة، يخيفني صوت المطر في الداخل والخارج، وتضنيني الوحشة. أفكرُ: يجب أن أؤمن بالمعجزات، فلا شيء قد ينجينا سوى معجزة.
يصنع بنا العقل كثيرًا من الأشياء في الحقيقة. من هذه الأشياء، فكرة واحدة تتردد في عقلي منذ فترة. إن عقولنا تمتلك قدرة فريدة، على خلق أشياء ومحو أشياء أخرى، بشكل كامل، في نسيج الواقع الذي نعيشه، دون أن يحرك أحد ساكنًا بالفعل. دعني أشرح لك ما أحاول قوله.
لو أنك منذ ولدت كانت لك أنف معقوفة للغاية. ليست مشوهة بالطبع، ولكنها ملحوظة. ملحوظة بمعنى أنه يمكن أن يتخذها شخص سخيف ذريعة للتنمر عليك، ولكن بشكل عام. لا يمكن اعتبارها مشوهة. يمكنك أن تقضي عشرين سنة من حياتك، لا تنظر لأنفك على محمل الجد، ولا تسبب لك مشكلة واضحة. حتى إذا سخر منك أحدهم، فإنك تستاء قليلًا. ثم يمر الأمر بعدها.
ما أقصده، هو أنه ستعيش حياتك بشكل طبيعي، لن يقوم أنفك بتحديد شخصيتك، ولا بالتحكم فب علاقاتك وتعاملك مع الآخرين. وحين ستكفر في نفسك داخل عقلك، لن تكون أنفك حاضرة. عقولنا قادرة على فعل ذلك. هذا ما قصدته بمقدرتها، على محو أشياء من نسيج الواقع تماماً. رغم أن الواقع ذاته، ثابت.
لو أنه، بعد هذه الأعوام العشرين، بدأ يحدث في عقلك شيء شبيه باضطراب التشوه الشكلي dysmorphic anxiety. فبدأ عقلك يلتفت لأنفك، ويشعر بالتضرر من شكلها. سيلتفت وعيك وإداركك كله للأمر حينها، وهنا تبدأ المشكلة.
أول شيء ستشعر بأنم مشهور طيلة الوقت، وغير متناسق. لو ارتديت ملابس جيدة، ستشعر أن هذه الملابس غير مكتملة الجودة، بسبب كونك ذا أنف كبير معقوف. لو اشتريت شيئًا جديدً، سيؤثر أنفم على تجربة استخدام هذا الشيء. حين تنجز شيئًا مهمًا يستوجب الفخر، سيعكر تفكيرك في أنفك، فرحتك بهذا الإنجاز.
ستبدأ في تعريف نفسك والعالم من جديد. حين ستقابل شخصًا جيدًا، ستشعر أنه سيعرفك عن طريق هذه الأنف، وأنها ملحوظة للغاية حد أنه يوشك على السخرية منك أو التعليق على كونها بهذا الشكل. أنت نفسك، ستبدأ في تعريف نفسك من جديد، اعتمادًا على معطيات جديدة في عقلك، لم تمن موجودة طيلة عشرين عامًا، ألا وهي: أنا أمتلك أنفًا مشوهًا.
الطريف في الأمر، أنه حين تقابل الأشخاص الذي تعرفهم، ستشعر أنهم يلاحظون أنفك للغاية. على الرغم من أنه، عمليًا، أنت كما أنت منذ أول مرة رأوك فيها. ولا شيء جديد أو مختلف. ولكنه الهاجس الطفولي غير المبرر داخل عقولنا، بأنه بما أننا صرنا نلاحظ أنفنا أكثر من اللازم، فلا بد أن العالم فعل ذلك هو الآخر.
هذا ما قصدته بقدرة عقولنا على الخلق، خلق شيء جديد في نسيج الواقع. ما حدث في الحقيقة هو أنه في فترة ما قرر عقلك تجاهل أنفك تماماً، فكانت أفكارك وعلاقاتك وتصرفاتك خالية من ذلك. وفي فترة أخرى قرر عقلك النظر بتمعن لأنفك، وبالتالي بدأ في صنع العالم من جديد آخذًا في اعتباره هذه المعلومة الجديدة. والحقيقة المحضة البديهية هي أن الواقع ثابت في الحالتين. أنفك هي أنفك. موجودة كما هي منذ أكثر من عشرين عامًا. ولمنها رؤيتك فقط، ومقدار الإدراك الذي تخيط به شيئًا ما، هو القادر على التلاعب في الواقع وخلق سباقات مختلفة لبنية واقعية واحدة.
ما أريد قوله هو أنه، نحن نمتلك مقدرة خارقة لخلق تفاصيل العالم حولنا. ربما لا نقدر على التحكم بها، نظرًا لأنه، حين تختار أن تبرز أنفك في عقلك، فإنه لا يكون ذلك نابعًا من رغبتك، ولكنه يحدث في النهاية. على كل حال، أرجو لكل شخص يعاني من الdysmorphic anxiety، أن يهدأ قليلاً فقط، ويدرك أنه على الأقل، في دائرة تعاملاته، لا أحد يلاحظ أنفه بشكل زائد عن الحد بعدما بدأ هو في ملاحظتها، وذلك لأن الناس يروننا من زمن، ومالت عقولهك بالفعل لطمس أنوفنا من رؤيتهم. وليس مجرد إدراكنا لشيء، سيجعل العالم يتبعنا لهذا الشيء.
ما الذي يصنعه العقل بنا؟ يختار أحياناً التلاعب في واقعنا ورؤيتنا،. بدون سبب واضح، أو سياق محدد. وربما هذا بالفعل، يفقد الأشياء بهجتها ويقودنا نحو الكآبة. ولكنه، هنالك دائمًا احتمالات مختلفة للأشياء. أولها الإيمان بأننا بشر غير مكتملين، ويوجد بنا نواقص. وهذا، لا يعيب رحلتنا للسعي للكمال. ينبغي أن ترتخيَ أيدينا من وقت لآخر يا أصدقاء، عن الأشياء التي نتشبث بها بلا سبب سوى هواجس بداخلنا. أحاول منذ فترة أن ترتخي يدي عن الأشياء، فقد أفقدني الخوف أكثر بكثير مما كان سيفقدني التخلي عن الأشياء التي في عقلي.
كان يوم العاصفه ؟
ReplyDeleteصح ؟
أيوة أعتقد كان يومها.
ReplyDelete