ريڨيو عن رواية متاهة الأرواح.

انتهيت البارحة من قراءة رواية متاهة الأرواح، وهي الجزء الرابع من رباعية مقبرة الكتب المنسية، للكاتب الإسباتي كارلوس زافون. في ملحمة ضخمة من 1040 صفحة، تدور الأحداث استكمالًا للجزء الثالث تحديداً، وهي تحدث في فلك رواية بوليسية من العيار الثقيل، يحاول فيها الكاتب سبر أغوار جميع الأسرار التي ألقى بلغزها في الجزء الثالث، أو التي لم يتوقعها القارئ حتى.

سأتحدث تحديداً عن خمسة أشياء.

1) الأسلوب: أسلوب الكاتب ساحر، مبدع، ومفعم بالتشبيهات والاستعارات التي لا يبخل بها الماتب إطلاقاً، سواء على لسان الراوي -وذلك لأن الرواية مبنية بأسلوب الراوي وليس السرد الذاتي- أو على لسان الشخصيات يتزعمها العزيز فيرمين، أحد أفضل الشخصيات في الرباعية إن لم يكن الشخصية الأفضل والأكثر تميزًا والأصعب نسيانًا. الأسلوب جميل، مشوق، والسرد في غاية البراعة.

2) الشخصيات: الكاتب بارع للغاية في في رسم شخصياته وخلق مكان لها في الأحداث. الرواية مليئة بالشخصيات والرباعية كلها بصفة عامة، دانيال وفيرمين وبيا وكاراكس وميغيل ونوريا وخوان ومارتين وإيزابيلا وڨايس وفوميرو وأليثيا وبارغاس وغيرهم الكثير. الشخصيات مرسومة بعناية. أفضلهم كما ذكرنا فيرمين، فيرمين المشاكس الفيلسوف الصعلوك الذكي الشهم الوفي المخلص، فيرمين الذي أخذ على عاتقه الاعتناء باثنين من أبطال الرواية. كل جملة يقولها فيرمين هي لغز من العبقرية والمرح والعمق والسفاهة.
وفي هذا الجزء، وعلى خلال ما يمكن توقعه، فالكاتب يسلم دور البطولة لشخصية جديدة تماماً وهي أليثيا غراي، المحققة الشابة، الجميلة كملاك طاهر، والمخيفة كملكة الجحيم، والمسكينة كطفل صغير مفقود في الحرب. في شخصية أليثيا عمق نفسي وأبعاد وطبقات متعددة، تجعلها أحد أفضل الشخصيات على الإطلاق. تتولى أليثيا لغز اختفاء الوزير ڨايس، في أجواء بوليسية وشيقة. وهو ما يقودنا للقصة.

3) القصة: بعد الانتهاء من سجين السماء والتعرض لماضي فيرمين ودافيد مارتين في سجن القلعة، وإلقاء بعض الألغاز على أرض الرواية، يأخذنا الكاتب في هذا الجزء الذي يشبه المتاهة جديًا، لسبر أغوار الألغاز. تدور الأحداث في محاولة أليثيا مع زميلها بارغاس لمحاولة اكتشاف لغز اختفاء الوزير ڨايس، من تسبب من قبل في حبس دافيد مارتين. وتنطلق أحداث الرواية في هذا الاتجاه، لنكتشف أن الكاتب كان ينسج العديد من الاتجاهات والمسارات في نفس الوقت.

4) الحبكة: إن أكثر شيء مبهر على الإطلاق فيما يخص هذه الرباعية، هو الحبكة. الحبكة مصممة بأسلوب هندسي فريد. لم أتمالك نفسي من الانبهار على مدار الرواية، بكل مرة يقوم فيها الكاتب بربط خفي مع الأحداث والشخصيات السابقة، حتى نصل في النهاية لتجميع كل الخيوط وربط كل الأطراف السائبة وحل كل الألغاز المعلقة، بأسلوب فريد قلما نرى مثله. الحبكة خارقة، مبهرة، متاهة متشعبة من الأحداث والشخصيات المتباعدة، والتي ترتبط في النهاية بشكل غرائبي ومعجز. ربما أسلوب زافون رائع، وقدرته على الحكي مبهرة، ولكن أكثر عناصره الروائية إبهارًا هو مقدرته الفذة على خلق العقد والألغاز ونثر الشخصيات والأحداث في اتجاهات متعددة، ثم لملمة كل ذلك بحرفية شديدة وبدقة لا متناهية لتكتشف أن كل حدث وكل شخصية كانت تشبه كوكبنا الذي يدور حول نفسه، في نفس الوقت الذي يدور فيه حول الشمس. كل حدث وكل شخصية، كانت تتحرك في مسارها بشكل منفصل ومستقل، ولكنه لا يتعارض إطلاقاً مع كونها تسير في المسار العام وخط السير الرئيسي الذي أسسه زافون بإعجاز مستحيل، حتى يتلاقى كل شيء في النهاية ويصبح لكل شيء معنى. ومعنىً مرضٍ ومحترِم لعقل القارئ كذلك.

5)النهاية: كانت النهاية جميلة، وجيدة، ومرضية، وجامعة مانعة فلا تترك وراءها شيئًا وإنما ربطت كل الأطراف السائبة تماماً، ووضعت نهاية لكل شيء صغيرًا كان أو كبيرًا. نهاية تليق بملحمة لا تتكرر مثل مقبرة الكتب المنسية. ربما فقط، قبل المئة وخمسين صفحة الأخيرة، كنت آظن أنه ينبغي أن ينتهي الكاتب هنا، ولا حاجة لمزيدفمن تطور خطوط سير الأحداث، وتسليم النهاية لشخصية جديدة. ولكن وبعد الانتهاء تماماً، كنت راضيًا، ولم أشعر بالانزعاج من الإضافات النهائية، وإنما شعرت بحتميتها حتى يرضي الكاتب حاجته في الإنهاء التام لكل خط سير ولكل شخصية ولكل حدث. الكاتب أنهى الرواية بضربة موفقة سريعة ونظيفة لا تترك وراءها شيئًا.

---

مقبرة الكتب المنسية هي ملحمة عظيمة، عميقة الأثر والوقع في نفس قرائها. ومتاهة الأرواح تحديداً هو الجزء السابر لأغوار كل شيء. ولذلك فهو الأفضل. هو لا يقل جودة عن ظل الريح التي تعتبر درة هذه الرباعية، بل إن المتاهة أشد تأثيرًا وعمقًا، ويزيد فيها حل الألغاز وكشف الأسرار، مما يجعلها أفضل أجزاء الرباعية.

على مدار هذا الجزء أحدث الكثير من الاقتباسات والمواقف التي لا أود نسيانها.

بعد الانتهاء من هذه الرواية. سيصبح من الصعب للغاية عليك الخروج من عالمها، أو نسيان شخصياتها الفريدة. وسيظل محفورًا في ذاكرتك، كل مرة استقبل فيها إسحاق مونفورت شخصًا جديدًا، قائلًا له:

"أهلًا بك في مقبرة الكتب المنسية."

Comments

Popular Posts