معضلتين.

أفتح المذكرات البنية اللون، وأفكر: ينبغي أن أكتب شيئًا. ولكن عقلي فارغ ككوب شاي شربته منذ قليل. أُغلق بيانات الهاتف وأفكر: اكتب شيئًا. الآن تستطيع التركيز. أو هكذا أحاول إقناع نفسي. على كل حال، وأنا أضع ماء الشاي ليغلي قبل قليل، لمحت السماء من نافذة المطبخ. كانت تصطبغ باللونين البرتقالي الناري، في الجزء السفلى قرب الأشجار والمباني، ثم الأزرق بدرجتين فاتحتين منه على الأقل، في الجزء العلوي من الأفق.

فكرتُ مع نفسي كم أن هذا مشهد شديد الجمال. رغم أنه، في حقيقة الأمر، شهدتُ الغروب مئات المرات. وكل مرة كان خليط الألوان خلابًا بديعًا للغاية، حتى أنني صورته معظم هذه المرات، لنفس الحاجة القديمة بداخلنا -والتي نمتها وطورتها التقنية- وهو أن اللحظات الجميلة ستضيع لو لم نسجلها، لو لم نوثقها، وبالتالي يمكننا الولوج لها متى أردنا. ولكنني هذه المرة لم أصور السماء. نظرت لها فقط. ملأت نفسي بألوانها الجميلة. علَّ هذه الرقة تزبل بعض الجفاف من نفسي.

حينما قمتُ لأطفئ عن الشاي وأصبه، ألقيت نظرة أخرى على السماء، فوجدتها قد اعتمت، غلب اللون القاتم على المشهد، أللهم إلا بعض البرتقالي الباهت في الأسفل، والذي توشك القتامة على تغطيته قريبًا. ولكنه -وللمفارقة- لم يُثر في المشهد مشاعر سيئة، لم أجزع. وإنما اعتبرته عن طيب خاطر، نهاية طبيعية للأحداث. فكرتُ بعدها في أنه، من المهم للغاية، أن يتقبل الإنسان النهايات الطبيعية للأحداث. تلك التي تتجاوز مقدرته على تغييرها.

ولكن الأمر ها يرتبط دائمًا بمشكلتين في عقلي. الأولى: هي أنني لا أعرف متى ينبغي القول على تلك النهاية بأنها تتجاوز حدودي وينبغي القبول بها، ومتى يجدر بي المحاولة، حتى الوصول لنهاية أكثر سلامًا. يُخيَّل إلى دائمًا بأنه، يعرف الجميع ذلك عداي. كأنني ولدت بنقطة عمياء، ودائمًا ما يقع "الحكم على الأشياء هل يجب إكمال السعي فيها أو لا" في حدود تلك النقطة. بعوزني الأمر دائمًا، لذلك أنا مرهق طيلة الوقت. ودعني ها هنا، أخبرك أنني لا أقصد أمورًا عظيمة في الحياة، وإنما فقط، أشياء بسيطة، نقاشات تافهة، أمور عديمة القيمة، يجد بك من السكوت فيها أو التجاوز، ولكنني أجدني دائمًا غير قادر على ذلك. لنفس الظن بأنها لم تنتهِ بعدها، لذا ينبغي إكمال النقاش فيها. أفكر الآن في قول دوستويفسكي، حينما قال أنه يجعل من النملة فيلًا، ولكن للحق، كانت النملة تدو كالفيل تماماً وقتها.

الثانية: تكمن في أنه، متى عرفتُ نهايةً واضحة، يقدر شخص مثلي حتى على التعرف عليها، فإنني لا أستطيع إخماد الصوت في عقلي بالاستمرار المستميت فيها، كأن حياتي تتوقف على ذلك. ربما تبدو هذه كامتداد للمشكلة الأولى، ولكن صدقني، كل منهما له ثقل كبير على حدة، والجمع بينهما في معضلة واحدة، هو تقليل من حجمهما.

نظراً للمعضلتين التين بين يدينا الآن، معضلة عدم معرفة متى تتجاوز الأشياء مقدرتنا، ومعضلة عدم المقدرة على التوقف، فإنني أجد نفسي مرهقًا طيلة الوقت. حقاً. منهوك كأنني أسير سيرًا متواصلًا تجاه شيء لا أعرفه. ولكنني أعرف تمام اليقين بأنه يستهلكني. لذلك بتُّ ‏أشعر أحيانًا أن الحياة تتسرب من بين يدي وأنا غارق في الأشياء عديمة القيمة والأهمية، مُحاصرٌ بها داخل عقلي. أتدرون يا أصدقاء، كان يمكن للأمور أن تكون أفضل لولا أننا نضع نفسنا -بصرف النظر عن الرغبةِ أو حدودِ السيطرة- في حلقات مفرغة من التفاهات والأشياء قليلة القيمة طيلة الوقت. ولكنه وللأسف، تحدث الأشياء بهذا الشكل. ونعاني نحن.

Comments

Post a Comment

Popular Posts