رفيق الحافلة غريب الأطوار - الجزء الثالث.

العالم غريب." رددت وراءه، شاعرًا بأنني لا أجد شيئًا أقوله غير ذلك. وأن التروس في عقلي، قد عطبت للغاية، من نقاش كل هذه التفاصيل الدقيقة، عن كون المرء وسيطًا روحيًا، أو ذو قدرات ميتافيزيقية. أصبح الماء الآن دافئًا. ولكن حلقي كان جافًا للغاية. فارتشفت بعض الماء. ثم لفنا الصمت بعدها لما يقرب العشر دقائق.

تذكرت شيئًا قاله منذ قليل، ولكنني تجاوزته ونسيته في غمرة حديثنا عن الوسطاء الروحيين. وهو أن الحافلة، سوف تتأخر نصف ساعة زائدة، بسبب حادث ما.

"قلت أن الحافلة ستتأخر نصف ساعةٍ أخرى، أليس كذلك؟

" بلى. هنالك حادث ما."

"إذن هل ستأتي في النهاية؟ "

" لا أدري. ربما تأتي. وربما لا تأتي. ألم نتفق على ذلك بالفعل في البداية؟"

"حسنًا ألا يمكنك، بشكلٍ خزعبلي ما، أن تعلم هل ستأتي أم لا؟"

ضحك رفيق الحافلة غريب الأطوار للمرة الأولى منذ بداية هذا الحديث. "في الحقيقة، لا أحبذ أن أخبرك بذلك تحديداً، ولكن... " صمت لثانيتين ليزن كلماته. ".. يمكنني أن أستخدم قدراتي "الخزعبلية"، لإخبارك عن سبب هذا الحادث.

حسناً. هناك شاحنة نقل ضخمة، اصطدمت بسيارة ملاكي عائلية. وأدى ذلك لانغلاق الطريق لمدة نصف ساعة. أدى، سيؤدي، لا يهم تحديداً. المهم أن هذا هو ما يحدث. وبالتالي ونظرًا للإصلاحات في الطريق، أدى ذلك لخلق نقطة اختناق مرورية، ستجعل مرور الحافلة التي ستسقلها شيئًا مستحيلًا الآن.

سائق الشاحنة رجل أربعيني، سأتجنب ذكر اسمه. عندما استيقظ، كانت زوجته قد استيقظت بالفعل. وكانت قد أعدت بعض البيض المقلي والتوست. ولكن التوست كان محمصًا أكثر من اللازم. أزعجه الأمر. لم يزعجه تحديداً، هو فقط كان غريبًا. فهي -أي زوجته، المعلمة- تعلم أنه لا يحبه محمصًا للغاية هكذا. كان ينوي تجاوز الأمر. ولكنه قرر في النهاية أن يسألها. عندما فعل، أخبرته بأنها نست الأمر. هز رأسه بصمت وسكت. ولكن الأمر قد زاد من انزعاجه. إذ إنه، كان ليتقبل حجةً مثل التهائها عن التوست بعمل شيء آخر. أو مثلاً، نسيته تماماً حتى تحمص بهذا الشكل. ولكن أن تنسى؟ فذلك سيء. سألها من جديد كيف تنسى شيئًا يفعلونه كل صباح منذ الكثير من السنين؟ فردت عليه، بأنه قد نسيت، وهذا هو ما حدث، والأمر لا يستحق. لم تكن تصيح وهي تقول ذلك، ولكن نبرتها تغيرت قليلًا. قليلًا بما يكفي لملاحظة الأمر. وكأنها، في عقلي، رفعت مستوى حدة الصوت بمقدار درجة. أزعجه الأمر أكثر وأكثر. كل مرة كان يشعر بالانزعاج، كان يحاول تجاوز الأمر، ثم يفشل في ذلك، فيسألها. وهذا ما حدث هذه المرة. ولكن هذه المرة عندما سأل، وكانت نبرته قد تغيرت هو الآخر بالفعل، نظرًا للردود العشوائية التي قالتها، كانت النار قد أُضرمت بالفعل. وتوالت الردود، المتزايدة في الحدة، حتى وصلت إلى مستوى الإرهاق للغاية لكلا الطرفين. أخذت تبكي. ولم يعلم ماذا يفعل. حاصرته مشاعر الذنب والغضب. كلاهما سويًا. ربت على كتفها، أو حاول على الأقل؛ إذ لم تسمح له بذلك كفاية، وتعللت بدخولها الحمام بعدها. وكان هو، مضطرًا للمغادرة، فأمامه رحلة طويلة من رحلات عمل الشركة. والتأخير يجلب عليه سخافة مديره الفرعي المباشر. فاضطر للذهاب أخبرها أنه يحبها وهي في الحمام، ثم ذهب. بعد بدء الطريق بربع ساعة، ومحاصرة الذنب له، قرر أن يتصل بها. رفع الهاتف وطلب الرقم، وفي أثناء محاولته فتح السماعة الخارجية، سقط الهاتف منه، حاول مد يده لجلبه، وبالطبع أنت تعرف ماذا يحدث عند هذه النقطة. اصطدم في شاحنة نقل أخرى. سيصاب بارتجاج خفيف، ولكن لن يكون هنالك مضاعفات إطلاقاً." أنهى رفيقي غريب الأطوار القصة. ونظر لساعته. ثم استأنف "انظر، كيف يمكن للأشياء البسيطة، خلق سياقات الدمار الشامل. يسمونه أثر الفراشة: تخفق فراشك بجناحيها في نصف الكرة الشمالي، تقوم الزوابع والأعاصير والحروب في نصفها الجنوبي. هذا ما حدث في حالتنا هذه. النقاشات تتحول تدريجياً لمرمى رصاص، يقذف فيه كل مشارك حمولته كلها. هذا أمر محزن. البشر معقدون للغاية. معقدون بشكل مرهق. لأنفسهم، قبل كل شيء."

"ماذا كان سيحدث لو قام بتسخين توست جديد لنفسه وتجنب هذا النقاش من بدايته؟"

"الأشياء لا تحدث هكذا. قد تبدو لك الأمور بخيارات متعددة، ولكنها ليست كذلك. لم يكن من الممكن أن يفعل ذلك. أنت ترى غير هذا، نظرًا لكونك ترى الموقف من هنا، أما، في قلب الموقف، تتلاشى الخيارات. تصبح محاصرًا. دون أن تدري. أللهم إلا بعض الأشخاص القلة، الذين يستطيعون التحكم بشكل واسع في نزعاتهم، وخلق خيارات متعددة، في أضيق مساحات ممكنة."

"أعتقد أنك محق. هذا محزن للغاية. ولكننا لسنا كائنات وحيدة الخلية في النهاية. العالم معقد. قبل أن يكون البشر معقدون." قلت ذلك، وأنا أشعر بشيء بدأ يعتمل في نفسي من وصفه لسائق الشاحنة، ولكني تجاوزته سريعاً، فلم يكن الوقت ولا المكان يسمحان. ولكن الغريب، بشكل ما، يحاول التسلل لداخلي.

" أنت محق. نحن كذلك بالفعل." قال ذلك، ثم لفنا الصمت. تحسست زجاجة الماء الخاصة بي، فوجدت الماء قد فقد كل أثر للبرودة، وكانت شمس الصيف تزداد حدتها في السماء. كنت أرتدي تيشيرت بولو أصفر اللون. وأتعجب كيف يطيق رفيقي غريب الأطوار سترته الجلدية، ولكنني كتمت تساؤلاتي لنفسي.

"قل لي، ألم تشعر يومًا بأن -حسنًا، كيف يمكنني صياغة ذلك- بأن حياتك عديمة المعنى؟" بادرني بالسؤال.

"لم أفهم ما تقصد." قلت له، وأنا غير مدرك لما يقصده تحديداً. "ولكن، إذا كنت قد فهمت تساؤلك جيدًا، فأنا أعتقد، أن كل شخص، في مرحلة ما، طالما لم يكن مهديًا بوحي من السماء، فهو يشعر بانعدام إشارات البوصلة، وفقدان حياته لأي معنى ممكن."

"هذا صحيح. كثيرًا ما شعرتُ بانعدام المغزى من حياتي. يشعر البشر بذلك كثيرًا. خاصةً حينما يكونون في خضم عمل ما يتطلب مجهودًا متعدد المراحل، فإنهم في مرحلة ما، يبدأون بالتساؤل: ما الذي أفعله هنا؟ هل ما أفعله الآن، هو حقاً ما أريد أن أكون بصدد فعله؟ هل أتبع حقًا ما يجب أن أتبعه؟" قال ذلك وصمت لبرهة، ثم استأنف دون أن يترك فرصةً لي للرد.

"الحقيقةُ أن ذلك الشعور يكون مؤذيًا للغاية، ومهددًا لما تقوم به. ولا يصيبك سوى في مرحلة حساسة من قيامك بشيء ما. في الوقت الذي تحلو فيه الدعة، وتلذ فيه السكينة الزائفة. هذا موقف عسير. تخيل أنك، قبل إتمام عمل ما، تبذل الكثير من المجهود المضني للغاية، لعقلك وجسدك على حد سواء. ثم تكر فكرة عابرة لا يؤبه لها في عقلك. لا تعيرعا انتباهًا للمرة الأولى. تقوم لتأخد قسطًا من الراحة، وتصنع كوب قهوة ضخم، وأثناء انتظارك غليانها، تعبر الفكرة مرة أخرى. تصب القهوة. تعبر الفكرة ثانيةً. ثم مرارًا وتكرارا. حتى يصبح من الصعب أن تتجاوزها الآن. هل أنا حقاً في الطريق الصحيح؟ هل أفعل ما ينبغي علي فعله؟ هل هنالك، على الإطلاق، معنى لما أقوم به؟" أنهى كلامه، وأخذ يعبث بقلم ما في يده لم أدرك متى أخرجه من حقيبته.

لفنا الصمت ثانيةً بضع دقائق، إذ كنت أفكر فيما قاله، غير عالم بما يجب علي الرد.

"أجل، يصيبني ذلك كثيرًا أعتقد. أنا شخص موسوس بطبيعتي، والأفكارُ، تتردد في عقلي بمعدل أكبر كما يحدث للبشر العاديين، ولذلك فأنا أفهم ما تقصده. هذا شعور قاس للغاية، وخاوٍ تماماً كبيت مهجور في الحرب." قلتُ له، متحدثًا عن وساوسي القهرية كما لو كانت سيئًا عاديًا كالإصابة بالبرد. بيد أنه، لم يبد أنه انتبه لما قلته، أو انتبه ولم يشأ التعليق.

"بماذا تشعرُ حين تنظر للسماء؟" سألني دون مبرر.

"أنظر السماء، فأشعر بالانشراح. الاتساع بهذا الشكل يريح قلبي. أنا شخص يشعر بالضيق داخل عقله، وأن المساحة التي أتحرك بها في الداخل، تقل، ولهذا فالنظر للأماكن الواسعة يريحني ويشرح صدري. تشعر به، كانعكاس لما كنت تريده حقًا بداخلك." قلتُ له، عارضًا الفكرة التي كانت تتردد في عقلي هذا الصباح.

"ولكن، أليس رؤية انعكاس لما تريده ولا تملكه في نفسك، هو شيء مؤسف قليلاً وغير مريح؟"

"ربما، هذه إحدى سبل النظر للأمر. ربما. ولكنه ليس السبيل الوحيد. فكما قلت لك، الأمر يبعث في صدري الراحة. كأنني خرجت من ضيق عقلي، لرحابة السماء. يمر فيها طائر ما، فأشعر بالغبطة تجاهه."

"يمر طائر فتشعر بالغبطة تجاهه. يا لها من جملة شاعرية جميلة." قال ممازحًا إياي دون سخرية.

"هي كذلك بالفعل على ما أعتقد." قلت له.

Comments

Popular Posts