المواقف التي يضطر فيها المرء لمواجهة نفسه في وضعٍ تجريدي تماماً.

أتنقل بين عقلي وبين الواقع. الجو بارد الآن للغاية. في كلا الاتجاهين أعتقد. أطل بنظري في الداخل، فأرى بحرًا ونجومًا، ومركبًا صغيرًا. يذكرني المشهد بسانتياغو العجوز. هل هنالك رابط؟ لا أدري. أتذكر أيضًا السيد أوكادا من يوميات طائر الزنبرك، حين قضى بعض الليالي في البئر المظلمة.

ربما الرابط الوحيد ها هنا، هو الفكرة المحورية، بأن كليهما، أدخل نفسه في حالة تامة من الانعزال؛ لأجل بلوغ هدف ما. هدف ضخم. شيء ما، لن تصل إليه بالسعي المعتاد.

العجوز سانتياغو كان يريد صيد شيء ما بعد انقطاع دام لثمانين يومًا. شيء ضخم. شيء يستحق الانتظار كل هذه المدة. لذا قضى في البحر وحيدًا -الكثير من الأيام- حتى يعود هذه المرة بسمكة مميزة عظيمة الحجم. ظل في عملية صيدها أكثر من ثلاث ليال حسب ما أتذكر. تدور معظم أحداث القصة والعجوز في قلب البحر. وحده. في حقيقة الأمر، أعترف، لقد كان الأمر موحشًا لي للغاية وأنا أقرأها. رجل عجوز وحيد في قارب صغير في عرض البحر لعدة أيام يناجي نفسه تارة أو يناجي السمكة التي اصطادها تارةً أخرى.
أعني، غياب العناصر البشرية، والعيش داخل عقل العجوز سانتياغو طوال هذا الوقت، كان موحشًا للغاية، إذا تخيلت نفسك مكانه. رجل وعقله والبحر من حوله فقط. رجل وعقله والبحر. شيء كئيب ومخيف، أليس كذلك؟ أن تواجه شيئين من أفظع ما يوجد في العالم في وقت واحد. عقلك، والطبيعةَ متمثلةً في البحر والبرد.

كان هذا موقفًا تجريديًا تماماً. لا أحد. لا أشخاص في الصورة. لا وسائل رفاهية. لا شيء. فقط العجوز. والبحر. تماماً كما سمى همنجواي القصة.

بالانتقال للسيد أوكادا -الشخصية المحورية في رواية يوميات طائر الزنبرك- فإننا نرى أن السيد أوكادا رجل لا يؤبه له، ويمر بظروف صعبة. رجل تهجره زوجته دون سابق إنذار -وتخونه أيضًا، إن جاز لنا تسمية الأمر بذلك-. لا ينال توضيحًا، ولا تفسيرًا، فقط رجل ضئيل الشأن ومهجور من زوجته دون الحق في إنهاء طبيعي للعلاقة. وبين مرور الأحداث هنا وهناك، يتقين السيد أوكادا، أن كوميكو -زوجته- تحتاج للإنقاذ. وأنها محاصرة داخل لعنة ما. في هذه المرحلة التي عرف فيها السيد أوكادا كون كوميكو تحتاج للإنقاذ، لم يكن يعرف بعد بشأن أي لعنة، أو أي شيء آخر. هو فقط، أدرك أنها تحتاج الإنقاذ، وأنها -بشكل ما- تستغيث به.

كما ذكرنا آنفًا، هذا هو الوضع. رجل ضئيل الشأن، يحتاج لإنقاذ زوجة لا يعلم ما حل بها من الأساس، ولا من أي شيء يجب إنقاذها. لا تشعروا بالملل الآن يا أصدقاء، سأصل لبيت القصيد قريبًا.

السيد أوكادا، قرر أن يعزل نفسه بشكل إرادي، في بئر جافة، في الظلام الدامس. منقطعًا عن الناس، والطعام والشراب، والضوء، ومسار الزمن الصحيح. قرر الانعزال عن كل شيء. فقط ثلاث ليال كاملات من الجلوس في بئر جافة مظلمة تماماً بكل ما تعنيه الكلمة من معنى، والانسلاخ تماماً من مسار الزمن. في ذلك الوقت، واجه طائر الزنبرك عقله بشكل قاسٍ للغاية. تخيل ثلاثة أيام أنت وعقلك في الظلام الدامس. شيء قاسٍ. وموقف أثقل مما يُحتمل.

بهذه الطريقة، وبشكل ما، استطاع طائر الزنبرك أن يعبر بروحه لبعد آخر غير الواقع، حيث رأي أحد كيانات كوميكو هناك، وبشكل ما، أنقذها.

ولكن ما أريد توضيحه، هو الوقت الذي قضاه طائر الزنبرك في البئر. وحيدًا، ضعيفًا، مهزومًا من الحياة. والأهم من كل ذلك، أنه بلا أدلة وبلا علامات وبلا أي شيء. فقط رجل وحيد وعقله وبئر جافة. موقف في غاية التجريد. القراءة عن الأمر كانت أيضًا موحشةً للغاية. أعني، هل، لو تعرضتُ لموقف مشابه، سأذهب إلى هذا الحد لكي أحقق شيئًا ما؟ هل سأضع نفسي في عزل اختياري تماماً، وموقف ضاغط للعقل كأنني في عمق محيط ما؟ دعك من كل هذا. أنا مستعد تماماً، للتضحية بأي شيء، فقط لنيل الهدف المنشود. ولكن الفكرة التي أناقشها ها هنا. ليست كون العجوز وطائر الزنبرك قد بالغا في التضحية والانعزال، ولكن، أنهم فعلوا ذلك من الأساس، دون أي إشارة قوية، لأن ذلك سيجدي بأي شكل في النهاية.
أقصدُ، أن العجوز لم يقل له أحد: اقض في البحر شهرًا وستصطاد سمكة عظيمة. ولكن، بمحض إرادته، قرر الانعزال في البحر حتى يصطاد، دون ضمانات. والأمر نفسه ينطبق على طائر الزنبرك. لم يقل له أحد: انعزل في البئر يا أوكادا وستصل لكوميكو. ولكن، بمحض إرادته الحرة، ودون ضمانات سوى his intuition، قرر فعل ذلك. والمبالغة في العزل والتجريد.

الأمر محير للغاية. محير تماماً. ما يمكن أن نصل إليه في سبيل الوصول لشيء ما نريده بشدة. نريده، حد أننا، نكون مستعدين لبذل شيء جوهري من روحنا لأجله. شيء ربما لن نعود بعده مثلما كنا مرةً أخرى، ولكننا مع ذلك نفعل. وكأن حياتنا تتوقف على ذلك.

لا أدري يا أصدقاء. لا أدري بما أنصحكم ونفسي. هل نذهب لمسافات بعيدة للغاية، ربما تعرضنا لفقد جزء من ذواتنا، من أجل تحقيق شيء ما؟ أم العمل في الحدود الآمنة والرضا بالنتائج التي تثمر عن ذلك؟
خاصةً، وكما تطرقنا في الأعلى، أنه لا ضمانات إطلاقاً، أنك لو ذهبت لبعيد ستصل لشيء ضخم، فقط سوى شعورك الداخلي. الفكرة الهاجسة في عقلك، بأنني لو ابتعدت، كثيرًا جدًا، لوصلت لشيء ما.

أترككم في النهاية مع كلام ماي كاسهارا صديقة طائر الزنبرك، حين نظرت

  • له آخر مرة كان في البئر.

Comments

Popular Posts