أيلا والقمر - قصة قصيرة.
إذا نظرتَ إلى جميع مباني الحي سينتابك شعورٌ مبهمٌ، أن كل المنازل تظلِّلها سحاباتٌ صغيرة، أو أن كلها منازلُ متشابهةٌ مملة، وربما تراها باللون الرمادي حتى ولو لم تكن كذلك، إلا منزلٌ واحد مطليٌّ باللون الأزرق المميز، ولا تعلوه غمامة، بل يكاد يضيءُ تقريبا في الحقيقة لا المجاز.
على أنك، لن تنتبه لهذه الملاحظةِّ كثيرًا؛ إذ إن كل المنازلِّ تكادُ تكون متماثلة في تصميمها، لذا ستعتقد أن عقلك يخدعك، ولكن -وأبقِّ الأمر سرًا- فالمنزل الأزرق لا يشبه غيره.
في المنزل الأزرق تسكنُ أيلا. وأيلا فتاةٌ صغيرة في نهايات طور الطفولة، لها عينان عسليتان واسعتان جميلتان. أيلا هي مصدر بهاء المنزل الأزرق وتميزه الغريب.
تخيل أن ترسم بالرَصاص على ورقةٍ بيضاء، ثم تمسكُ بكشافٍ ما وتسلطُ ضوءه على الورقة من الخلف فتتضح معالم اللوحة، هل تتخيلُ الفرقَ الذي أقصده؟ هذا هو أثرُ وجودِّ أيلا في المنزلِّ الأزرق، تبث فيه ضوءًا خفيًا، تجعلهُ مميزًا.
في الحي الذي تسكنُ فيه أيلا يحتفلُ السكان كل عامٍ بعيد عتيق يسمونه "عيد القمر"، في الليلة التي يكتمل فيها القمر في شهر نوفمبر من كل عام، وهذا العام سيوافق ليلة الحادي عشر. وتقول الأسطورة: أن الأرض شعرت بالوحشة ليلًا في غياب الشمس، وظلتْ تشعر بالوحشة كثيرًا وتبكي حتى سمع نحيبها القمر الذي كان يتجول بلا هدف في الكون فرثى لحالها وقرر أن يلازمها للأبد. بذلك أصبح للأرض صديق ليلي، ألا وهو القمر.
تقول الحكايات أن حكماءً عاشوا هنا قديمًا قبل وجود القمر، وقد أخذوا يعزفون موسيقى حزينة كل ليلةٍ ليشاركوا الأرض رثاءها، وكانت موسيقاهم التي اخترقت ربوع الكون وسمعها القمر سببًا رئيسيًا من أسباب التحاقه بالأرض، ولذا، فعيد القمر هنا ذو أهمية بالغة.
تكونُ الاستعداداتُ قبل العيد على قدم وساق. يشتري السكان الملابس الفاتحة، تخبزُ الأمهات المخبوزات اللذيذة، كما يصنع السكان صغيرهم وكبيرهم النايات على اختلاف أشكالها وألوانها ليغنوا بها ليلة العيد، هذا تقليد راسخ -والكل هنا يعرف صنع النايات تقريبًا- وتعم السعادة الأجواء كالرائحة الذكية.
ولكن، في ليلة السابع من نوفمبر لهذا العام لاحظ الناس اختفاء القمر تمامًا، كان في الليلة الماضية -ليلة السادس من نوفمبر- موجودًا، ولكنه اختفى الآن تمامًا، أصبحت السماء حالكة الظلمة.
كان هذا الأمر فاجعةً هائلة لأهل الحي، فهذا هو أسوأُ نذير شؤم يمكن أن يحدث على الإطلاق، تحيرَ الأهالي في كيفية التصرف، أصبحَ الجوُ طيلة الوقت وكأنه ملبدٌ بالغيوم وكأنها أرواح شريرة كان وجودُ القمر يحمي الناس منها.
في المنزل الأزرق كانت أيلا تفكر في هذا الأمر كالجميع، أين اختفى القمر؟ ولمَ اختفى بالأساس؟ وكيف اختفى؟ لم تجد إجابة، وانتابتها نفس الحيرة، ولكن عقلها بدأ يُفكر، فكرت أنه ربما ارتأى القمر أن الأرض أصبحت تتونس بأهلها الآن ولا داعي لوجوده، أو أنه تخيل أن أضواء المدينة صارت تحجبُ أضواءَه، فأحزنه الأمر وقرر الرحيل، وربما غير ذلك، لا أحد يعلم الحقيقة.
على أنه في النهاية، القمر مختفٍ، هذا هو الواقع الآن، ولا أحد يعرفُ كيف يتصرف، مرت ليلة الثامن من نوفمبر والحال كما هو وقلوب أهل الحي مثقلة للغاية، حتى كان صباحُ التاسع من نوفمبر، اهتدى الشيوخ إلى احتمالية وجود أي معلومة في مكتبة الحي، لذلك شرعوا في البحث عن شيء يرشدهم ولو قليلًا، شيء مثل حادثة مشابهة قديمة أو ملاحظة من حكماء الماضي عن ظاهرةٍ كتلك، أي شيء، قَضَوا قرابة الخمس عشرة ساعة من بداية اليوم حتى قبل منتصف الليل، ولا شيء، وبالصدفة وجدوا مخطوطةً قديمةً مهترئةً في مكان قصي من المكتبة التي تعتبر مبنى عملاقًا.
هذه المخطوطة تتنبؤ باختفاء القمر في يومٍ ما بلا سبب، وحلول الليل المظلم تمامًا، من تنبأ بها لم يذكر تفاصيلًا ولم يوضح أي شيء، ألقى بالأمر فقط، وكأنه حلم غريب أتاهُ فقامَ بتسجيله ولا غير، على أنه افترض في حال ما تحققت النبوءة المشؤومة -وكحل الأمر- أنه ربما يمكن تصحيح الوضع، في أن يتواصل صاحب أكثر قلبٍ مضيءٍ بالقمر، وربما يعود بعد ذلك إن كان قلبُ هذا الشخص نقيًا كفاية.
برغم راحة المعرفة، إلا أن شيوخ الحي لم يعرفوا كيف يتصرفون، أعني أنه كيف يمكن معرفة صاحب أكثر قلب نقي؟ هذا شيء غير قابل للقياس، وحتى ولو تعرفوا عليه -وهو شيء في نطاق المستحيل تقريبِّا- فكيف يمكن أن يتواصل مع القمر؟ هذا معقد للغاية، خاصةً وأن صاحب النبوءة استخدم هذه الكلمة تماماً: "يتواصل مع القمر"، فكيف يكون ذلك؟ النبوءة كلها هلامية للغاية في الحقيقة، ولكن في الأزمات يتعلق اليائسون بقشة.
لذلك، في صباح اليوم التالي جمع الشيوخ جميع أهل الحي في الميدان المستطيل، وأخبروهم بالنبوءة، ثم طلبوا من كل شخص يرى في نفسه النقاء الحقيقي أن يحاولَ التواصلَ مع القمر بأي شكلٍ يراهُ مناسبًا، كما طلبوا منهم سرعة فعل ذلك، لأنه لم يعد على العيد سوى يومين، ولا يمكن مرور عيد بدون قمر، هكذا قال صاحب النبوءة محذرًا.
بعد إفشاء الشيوخ عن النبوءة أخذ كل شخص يفكر مع نفسه مشغِلًا كل تروس عقله، من هو صاحبُ القلبِّ الأنقى؟ وكيف يمكنُ التواصل مع القمر؟ فقط لو كانت النبوءة أكثر وضوحًا! ولكنها ليست كذلك، هذا ما يجب أن نتعامل معه الآن.
في ليلة العاشر تحلمُ أيلا حلمًا غريبًا، في ذلك الحلم رأت أيلا نفسها تعزف على ناي جميل للغاية تحت شجرة تصل أفرعها إلى السماء، تستيقظُ أيلا في صباح اليوم التالي، وتشعر بالحلم حقيقيًا للغاية، إنها تعرف هذه الشجرة، ولكن لم تدركْ كيف، فلا شجرة تصل للسماء بالطبع، ولكنها تعرفها، ثم أتتها الفكرة بشكل مفاجيء، إنها أحد الأشجار التي توجد في حديقة المنزل، لا تدري كيف تعرف ولكنها هي، خرجت أيلا مباشرةً للحديقة ووقفت بجوار الشجرة تحاول الوصول لشيء لا تدري كنهه.
"أيلا"
جفلت أيلا حين سمعت هذا النداء.
"من هناك؟" قالتْ أيلا .
"إنه أنا يا أيلا، أنا الشجرة التي جئت لتريها ".
لم تكد تسمع ذلك حتى كادت ترتد للخلف من الدهشة.
"لا تخافي، السلالة التي أنا منها، تستطيع التخاطر مع البشر، لذا قولي الكلام في عقلك فقط وسأستطيع فهمك." قالت الشجرة العجوز بصوت بدا كأنه يخرج من عقل أيلا مباشرةً.
"إذن هل تستطيعين سماعي الآن؟" فكرت أيلا.
"نعم أستطيع تماماً، الآن تعالي واجلسي عندي، لدي ما يجب قوله لك."
فعلت أيلا ما طلبته منها الشجرة العجوز، اقتربت منها وجلست ثم أسندت ظهرها لجذع الشجرة وضمت ركبتيها إلى صدرها .
"إن قلبك هو الأنقى يا أيلا، أعرف ذلك منذ ولادتك، هذا شيء، حسنا،ً تستطيع الاشجار من سلالتي معرفته، لا وقت للشرح، ولكن، بإخباري لك بذلك، يكون نصف الأحجية قد تم حله، النصف الآخر سيكون أكثر صعوبة، أنصتي جيدًا، صاحب النبوءة هو أحد المؤسسين الذين يمتد نسبك إليهم، كنتُ أراه منذ كان طفلًا، عندما كبر صار متنورًا وقارئًا للنجوم، وقبيل رحيله عن القرية ليبحث عن الحقيقة أخبرني أنه يومًا ما ستحلُّ الكارثة ويختفي القمر، وجزء آخر من نبوءته هو أنني سأظل حيةً حتى حدوث الكارثة، وطلب مني إرشادك في الجزء الأخير من الأحجية وهو محاولة التواصل مع القمر المختفي، هل تفهمينني جيدًا وتستوعبين ما قلته حتى الآن؟" سألت الشجرة العجوز.
"نعم يا جدتي الشجرة أعتقد ذلك." قالت أيلا وهي تشعر بأن الأشياء غير حقيقية بالمرة .
استأنفت الشجرة: "قبل تدوين التاريخ، وحينما كان المؤسسون الأوائل يعيشون هنا في القرية، استخدموا أفرع أشجار من سلالتي العظيمة لصنع نايات يعزفون بها ألحانًا حزينة تصحب أغانيهم التي يشاركون بها الأرض وحدتها، لذا ستأخذين أحد أفرعي ثم ستصعنين منها نايًا، تعزفين به للقمر." أنهت الشجرة العجوز كلامها الذي يتدفق إلى عقل أيلا مباشرةً .
"لن أخذلك يا جدتي الشجرة، ولن أخذل جدي الأكبر الذي ائتمنني على هذه المهمة منذ الدهر القديم."
"الآن، سأُنزِل أحد أفرعي المميزة لك، اقطعيه ثم عودي للمنزل وابدأي في التنفيذ." مع آخر كلماتها، وجدتْ أيلا أحدَ الأفرع يتدلى إلى جوارها، شدتهُ فانخلع بسهولة، نهضت بعد ذلك، وهمتْ بالمغادرة.
"تذكري جيدًا" -قالت الشجرة- " يجب أن يتم الغناء في أول دقائق من العيد، أي بعد حلول الليل مباشرةً، حيث تكون أرواح أهل الأرض في أقوى اتصال مع القمر" هزت أيلا رأسها علامة للفهم، وحثت الخطى تجاه المنزل الأزرق، وكنا في وقت الظهيرة.
شرعت أيلا تصنع الناي كما علمتها جدتها منذ بضعة ساعات، استغرق الأمر إلى العصر تقريبًا، كان ذلك أجمل ناي وقعت عيناها عليه، وكأنه يضيء طيلة الوقت، بعد ذلك، قررت أن تنام قليلًا حتى يحين موعد التواصل مع القمر، في نومها رأت أيلا أنها تغني على سطح القمر.
تستيقظ أيلا في الساعة السادسة، تنهض مسرعة، تأخذ الناي السحري، ثم تنطلق للميدان المستطيل، كان الميدان مليئًا بالأشخاص المكتئبين الذين ينتظرون أي معجزة، كانت أيلا تتمنى لو أخبرتهم عن كل هذا، ولكن لم يكن هنالك وقت كاف، اتخذت مكانًا قصيًا وأخذَتْ تنتظر حتى بدأَ الظلام يحل، حين ذلك شرعت أيلا في الغناء، بكلمات لم تعرف كيف عرفتها، هي فقط تدفقت على لسانها.
"أيها القمرُ السعيد
يا صاحبَ الأرض البعيد
يا صاحبَ الضوء الجميل
عُدْ إلينا من جديد."
تغني أيلا وتُكرر، والناي يعزف بشكل سحري بجوارها، يعزف أعذب نغمات سمعها بشري على الأرض، صمت الناس كلهم في الميدان في إجلال ورهبة.
تنهي أيلا أغنيتها وعزفها، مرت لحظات من الصمت المهيب للغاية، وتحت أنظار الناس بدأ القمر يظهر مرةً أخرى كأنه كان مخسوفًا وظهر، أخذ الناس يصفقون ويهللون بكل سعادة، ثم أقبلوا على أيلا، يتزاحمون حولها ويحاولون التقرب منها وشكرها بكل امتنان ممكن على إنقاذهم والزود عنهم ضد شر النبوءة.
بعد ذلك يشرع الجميع في الغناء وتناول الطعام ونشر الزينة؛ احتفالًا بعيد القمر، العيد الذي سيُقام بفضل أيلا ونقاء قلبها، الناس سعداء لا شيء يُعكر صفوهم، لا شيء يخيفهم، يعملون أنه في الليل يظهر قمرهم المُحبب يُنير ظلمتهم ويشرف عيدهم، ولكنهم أيضا يدركون أنه في وَضَحِّ النهار، يمتلكون قمرًا آخر في هيئة فتاة، يُبددُ عنهم الشرور والمصائب.
لو نظرت للحي، لوجدت أحد منازله أكثر بهاء، ويبدو بلون أزرق فضي جميل، الآن -أعتقدُ -بتَّ تعلم السبب، ففي هذا المنزل الأزرق، تسكنُ أيلا، ذات العينين العسليتين الجميلتين.
هل من قصص قصيرة أخري ؟
ReplyDeleteفيه قصة غير مكتملة.
ReplyDeleteالحقيقة البداية فقط هي ما تم كتابته
ReplyDelete