رفيق الحافلة - غريب الأطوار. الجزء الأول

كنت في انتظار الحافلة. تلك التي يفترض أن تقلني لمدينة مجاورة، تبتعد عن مدينتي الحالية مسافة 60 كيلو مترًا.
جلست في مكان المخصص للانتظار، أخرجت من حقيبتي الصغيرة كتابًا متوسط الحجم، وحاولت جاههدًا إجبار عقلي المشتت على القراءة فيه واستعياب ما تمر عليه عيني، فهذا، ورغم كل شيء، يظل أفضل من الانتظار السادي لقدوم حافلة لن تأتي قبيل ساعة على الأقل. ولا يمكنني أن ألوم سوى نفسي؛ لخروجي من المنزل مبكرًا؛ لعدم تيقني من ضبط ساعتي جيدًا، والذي جعلني أخرج مبكرًا بهذا الشكل. لذا، ومع هذه الحيثيات، قررت قتل الوقت ببعض القراءة، عل الأمر يفلح.

بعض مرور عشر دقائق، وجدت أحدهم يجلس بجواري، ينتظر الحافلة هو الآخر. لمحته بطرف عيني أثناء القراءة. يبدو شابًا في نهاية العشرينات، يرتدي سترةً غير ملائمة لطقس تصل حرارته إلي خمس وعشرين درجة. ونظارةً صغيرة العدسات وبلا إطار. حاولت أن أعتصر تركيزي مرةً أخرى، وأكمل قراءة. بعد بضع دقائق، أخرج صاحبي هذا علبة عصير من حقيبة ظهر، كان يضعها على الجانب الآخر. وبدأ يرتشف منها. ذوقيًا، عرض عليّ، فابتسمت وشكرته. ثك أكملت قراءة.

"هل تنتظر الحافلة منذ الكثير من الوقت؟ " بادرني بهذا السؤال وهو يشرب عصيره.

"منذ عشرين دقيقة على الأغلب." رددتُ. أومأ لي برأسه ثم صمت. لم تكد تمر دقيقة، حتى تحدث مرةً أخرى.

"أتدري، ربما لا تأتي الحافلة، ليس كل انتظار، يثمر في النهاية بما تريد. فجلوسك الآن، منتظِرًا، لا يضمن لك على الإطلاق أنها ستأتي، أو أنك ستستقلها، أو أنك ستذهب إلى حيث تريد." فاجأني بكلامه هذا دون النظر إليّ، وإنما كان ينظر أمامه ويعبث بعلبة العصير بيده، والتي بالكاد تناول منها حتى الآن رشفةً أو اثنتين بالكثير.

لم أجد شيئًا مناسباً أرد به على هذا الخطاب الفلسفي. ولكنني كذلك، وجدته سيكون غير ملائم أن أصمت تماماً ولا أرد.
"ولكننا لا ندري، أليس كذلك؟ لا ندري إذا كانت الحافلة ستأتي أم لا. وربما قد يبدو الأمرُ، أننا أمام احتمالين متساويين: ستأتي/لن تأتي. ولكن الأمر ليس كذلك. إذ الطبيعي أن تأتي. هذا ما يحدث كل يوم، أو، لنقل معظم الأيام تقريباً. ولذلك عندما نجلس هنا وننتظر، نتوقع المعتاد فقط، حتى يأتي ميعادها، ولا نراها قادمة، فنعرف وقتها، أنها على الأغلب لن تأتي. أما قبل ذلك، فافتراض عدم قدومها، بماد يكون بلا معنىً، إذ إن ميعادها لم بأتِ بالفعل، وإنما نحن اللذان خرجنا من منزلينا مبكرَين." وأنا أنظر لشجرة الفيكس الضخمةِ للغايةِ التي تقع على طرف الطريق الآخر، رددت عليه هذا الرد المطول، والذي فرضه عليّ عمق سؤاله. لطالما كام الإيجاز ليس شيئًا أتقنه أو أحبه. أستطيع عرض أفكاري فقط إذا أسهبت بالحد الكافي لفعل ذلك. وهذا ما فعلته الآن. وشعرت بالرضا قليلًا عن إجابتي.

"أنت محقٌ تماماً." قال ذلك ببساطة، وارتشف رشفةً أخرى من العصير الذي لا بد وأنه بدأ يفقد برودته الآن.

بضعة دقائق، ثم خطر لي سؤال آخر.
"هل تعتقد أنها ستأتي؟"

"نعم، أعتقد ذلك. لأنه كما قلت، الطبيعي أن تأتي. لذا نقوم نحن أيضاً بالطبيعي، ألا وهو انتظارها. أما ما سيحدث بالفعل، فليس اختصاصنا. فإذا أقدمت في ميعادها، فهذا هو ما يفترض حدوثه. وإن لم تقبل، فلنقل أنه مجرد حظ عاثر اليوم."

"هل تؤمن بالحظ؟" باغتُّهُ بهذا السؤال.

" لا، لا أؤمن به إطلاقاً. ماذا عنك؟"

"مثلُك تماماً."

"فهمتُ." قلت له ذلك. ثم أخرجت زجاجة ماء من حقيبة ظهري، إذ كنت بدأت أشعر بالعطش. شربت قليلًا حتى ارتويت، ثم أغلقتها ووضعتها بجواري مرةً أخرى.

"ما الذي تقرأه؟" سألني وهو يحدق للكتاب الذي أحمله بيدي.

"شجرة تنمو في بروكلين."

"آه. فرانسي كانت فتاةً رائعةً للغاية، أليس كذلك؟"

"لقد كانت كذلك بالفعل. وكانت تحب أخذ نصيبها من القهوة السوداء، ثم رميه في المجلى بعد ذلك دون أن تشربه. كان ذلك يعطيها شعورًا طيباً بأنها يمكنها التخلص من الأشياء كما يفعل الأثرياء." قلت ذلك متذكرًا إحدى الأشياء التي كانت فرانسي تقوم بفعلها. والذي ربما لا يبدو مهمًا إطلاقاً. ولكنه عَلِق في عقلي لسببٍ ما.

أومأ ذو السترة برأسه ثم تحدث ثانيةً. "إنها رواية رائعة. وسابقة لزمانها. كتبت في خمسينات القرن الماضي. وهي الرواية الوحيدة لكاتبتها. إنها واحدةٌ من تلك الروايات، التي تستطيع تفاصيلها إن تسرقك تماماً. بكل ما تعنيه الكلمة من معنى. فتشعر بالسعادة وأنت تقرأ، لا لأن الأحداث تتحرك، ولكن لأن التفاصيل تُغزل أمام عينيك وكأنك أحدها، وكأنك، تعيش داخل هذه التفاصيل. الطعام والأماكن والنقود القليلة والمشاعر الطفولية. تشعر بكل هذه الأشياء. إنها رواية رائعة."

"أنت محق تماماً." لم أستطع الرد بشيء سوى هذا.

"تكبر فرانسي لتصبح كاتبة روايات كبيرة. تتزوج مرتين. في المرة الأولى يموت زوجها في الحرب. وبعدها بعشر سنوات، وفي منتصف ثلاثيناتها، تلتقي زوجها الثاني. وتكمل باقي حياتها معه. وفي مرحلةٍ ما تصبح ثريةً للغاية من جراء الكتابة." قال صديقي ذو النظارة عديمة الإطارات.

اندهشت قليلًا. أو كثيرًا لكي أكون صريحًا. ربما مر عام أو يزيد على قراءتي للرواية، ولكنني بالفعل أتذكر نهايتها جيدًا. تتزوج الأم رجلاً عسكريًا قديمًا، ومقتدرًا مادياً. وتكون هذه هي بادرة التحسن المطلق في حياة فرانسي وعائلتها. هكذا فقط. لذلك بعد بضع لحظات من التفكير. استفسرت عما سمعت.
"ولكن كيف عرفت ذلك؟ لقد انتهت الرواية وفرانسي في فترة المراهقة، وأمها على أعقاب زواج جيد. هل تتخيل ما سيحدث بعدها أم ماذا؟"

"لا، لا أتخيل. لقد تحدثت مع الكاتبة بعد عامين من صدور الرواية. وهي أخبرتني بخط الزمن المحتمل لحياة فرانسي." قال بهدوئه الذي بدأ يصبح مستفزًا لي، وكأنه يخبرني أنه تناول خبزًا وبيضًا على إفطاره اليوم وأن البيض كان لذيذًا.

"ماذا تعني بأنك تحدثت مع الكاتبة بعد عامين من صدور الرواية؟ لقد صدرت الرواية، كما قلتَ، في خمسينيات القرن الماضي. كيف يمكن فعل ذلك؟" حاولت صياغة أكثر سؤال متعقل وبديهي كاعتراض على ما قاله منذ قليل.

لم يرد مباشرةً، نظر للسماء في هذه اللحظة. كان هنالك سرب ضحك من الطيور يمر، فيما يبدو كهجرة جماعية. كانت طيورًا كبيرةً نوعاً ما، أقصدُ، بالنظر للمسافة التي تطير عليها، فلو كانت حمامًا أو غربانِا أو أي شيء مشابه، لبدت أصغر من ذلك.

"العنز طيور رائعة. حجمها يجعلها مميزةً دائمًا حين تحلق في السماء. ولها لحم جيد أيضًا." قال متجاهلًا سؤالي منذ قليل وكأنه لم يكن.

رأيت هجرة العنز مرةً واحدةً في حياتي. كنت طفلاً صغيرً، ولفت انتباهي خجم الطيور في السماء. سألتُ أبي، فأخبرني عنها، وكيف كانوا يصطادونها في صغرهم وما إلى ذلك.

"لم أر هجرة العنز منذ طفولتي." قلتُ له، محاولًا التحكم في أعصابي، وإقناع نفسي بأنه سيعود لسبر الغموض عن نقاشنا الذي دار منذ قليل مرةً أخرى.

"آه. أعرف ذلك. وأعرف أيضًا عن النقاش الذي دار بينك وبين والدك." قال بهدوء، وبتعبير مسالم للغاية على وجهه.

"هل أنت وسيط روحي من نوع ما؟" سألتُ بشكل مفاجيء، إذ لم أعد أحتمل هذه الألغاز الغريبة.

"ربما كنت وسيطًا روحيًا، وربما لا. أنت تدري، وضع الأشياء في مسميات، يقيدها قليلًا. أو يفشل في توصيفها كما هي عليه بالضبط. لم أفكر في الأمر من قبل أعتقد." ارتشف رشفةً من العصير، ثم أكمل دون أن. يترك لي فرصةً للرد.
"كنتُ أرتحل وقتها بحثًا عن بعض الأشياء، وتوصيلًا لبعض الأشياءُ بعضها ببعض. كانت الرواية ما زالت طازجة، وتشق طريقها نحو الشهرة الكاسحة التي ستجعلها عملًا أدبيًا فريدًا. ولقد أحببت فرانسي. جدًا. لذلك انتابني ذلك الفضول الذي يدفعنا لمعرفة مصير الشخصيات بعد نهاية حكاياتها. أتتذكر رواية The fault in our stars؟ ألم يكن للبطلة، رغبة مشابهة لذلك، جعلتها تسافر لبلد آخر، فقط لسؤال الكاتب عن مصير شخصيات رواية كانت تحبها؟ بالطبع تتذكر. أعلم أنك قرأت الرواية في عامك الثاني من الجامعة. أياً يكن أنا أيضًا دفعني الفضول لذلك. فذهبت لزيارة الكاتبة. شربنا كوبين من الشاي في أحد الصباحات الشتوية. وخلال ذلك باحت لي بخط السير المحتمل لحياة فرانسي مما هو في عقلها."

Comments

Popular Posts